لغة القرآن الكريم في كتابات الشيخ ياسين المنزلة والوظائف

د. رشيد بلحبيب
أستاذ الدراسات اللغوية بجامعة قطر – قطر
مقدمة
لحكمة ما – أرادها الله تعالى -كانت المسألة اللغوية حاضرة منذ اللحظة الأولى لخلق الإنسان، فقد كان أولُ تعليم رباني تلقاه الجنس البشري ممثلا في آدم عليه السلام، هو اللغة والبيان، حتى قبلَ أن يتعلم آدم كسبَ قوته، أو عبادة ربه، أو ستر عورته (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (البقرة 31) .
ولغاية مشابهة، احتلت اللغة العربية أو “اللغة القرآنية” كما يسميها الشيخ ياسين، منزلة متميزة في المعمار المعرفي لكتاباته، ومع أنه لم يخصص لها فصولا بعينها في أي من كتبه، إلا أن حضورها وسريانها في شرايين مؤلفاته تنظيرا وتطبيقا، أمر ملحوظ لا تخطئه العين، فقد كان على وعي عميق بأهمية اللغة العربية، وتأثيرها في فهم الدين وإدراك أسرار العبارة القرآنية، وتوحيد الأمة على كلمة سواء.
فاللغة عنده، تدرج في سلسلة مكونات الإطار المرجعي والهوياتي للإنسان المسلم، إنها تعطي الأنماط التي نفكر فيها، والتي بواسطتها نبني العالم ونتقدم في فهم الدين والدنيا. وهي تجعل من الأمة الناطقة بها كُلاّ مُتراصا، إنها الرابطة الوحيدة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأرواح، بين المنطوقات والمفهومات. إنها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها.
وقد وظف الشيخ ياسين اللغة توظيفا متعدد الأبعاد، وغاص في تفاصيلها، بدءا من تأصيل المصطلحات وتدقيق المعاني، ومرورا بتأكيد الشرط اللغوي للاجتهاد… كما تحدث الشيخ عن مناهج تعليم العلوم الشرعية ومكانة اللغة العربية منها، وسرد عددا من الكتب الضرورية لطالب العلم، وركز على دور اللغة القرآنية في صياغة الهوية الإسلامية الجمعية، ثم تحدث أخيرا عن تأثير اللغات الأجنبية واللهجات المحلية في وحدة الأمة.
وقد جاءت هذه القضايا/ الموضوعات متناثرة في أكثر كتبه، وستحاول الورقة نظمها والتوسع في بيان أبعادها، بالشكل الذي يقدم لنا تصور الشيخ ياسين لمنزلة اللغة العربية ووظائفها، وقد ارتأيت أن أقسم هذا البحث إلى مقدمة وأربعة محاور:
- مقدمة في عناية الشيخ باللغة العربية من خلال الدعوة إلى تعلّمها وتعليمها، وقد ظهر ذلك في تجويد كتاباته، والعناية بها فجاءت نصوصه قِطعا من الأناقة متدفقة بالشعرية، يستمتع القارئ بها، وتشده إليها شدا، وتذكرنا رأسا بكتابات الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، ومصطفى صادق الرافعي…
- المحور الأول: في العناية بالدقة اللغوية وبالضبط الاصطلاحي والمفهومي، والتوليد والاشتقاق، وقد نحت الشيخ قائمة من المصطلحات والعبارات، وطبعها بطابعه الخاص… إلى الحد الذي يمكن فيه الحديث عن معجم خاص باستعمالات الشيخ اللغوية، وخاصة في حقل السياسة الشرعية والروحانيات.
- المحور الثاني: في علاقة اللغة العربية بالقرآن الكريم، وبعلوم الشريعة، وبشروط المجتهد، حيث تحدث عن لغة القرآن باعتبارها لغة اللسان والفكر والروح، وجعلها- مقتديا بسلف الأمة- شرطا من شروط الاجتهاد.
- المحور الثالث: في علاقة لغة القرآن الكريم بالهوية الجمعية للأمة، إذ لم يكتف الشيخ ببيان أهمية العربية في المجال العلمي، بل تجاوز ذلك إلى تأكيد نسج اللغة القرآنية للهوية الجمعية للأمة، ودورها في توحيد طرق التفكير والمشاعر.
- المحور الرابع: في نقد العجمة والرد على المستعجمين، حيث يعيش الشيخ عصره بكل تموجاته، ويتابع اكتساح اللغات الأجنبية لألسنة الهوية، ومضايقات اللهجات المحلية/ الضرات، للغة القرآن، ودورها في خلخلة النسيج الاجتماعي للأمة، وتصدى لدعاة التغريب اللغوي وأنصار الألسنة العجمية، وتتبع شبهاتهم ورد عليها بالحجة والدليل.
وسيكون منطلقي في تناول هذه القضايا إن شاء الله، ما تناثر في مؤلفات الشيخ ياسين من أقوال واستدلالات، أجمعها وأنسج منها كلا منتظما يكشف تصور الشيخ للمسألة اللغوية، طلبا لوضوح الرؤية وتوثيقها، وتحقيقا للموضوعية.