ثنائية الدعوة والدولة في تفسير الإمام عبد السلام ياسين

0 1٬435

د. رشيد عموري

باحث في علوم القرآن بمركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات – المغرب

مثلت قضية الدعوة وعلاقتها بالدولة إشكالية في الفكر السياسي الإسلامي، وشهد الواقع على هذه الثنائية من خلال قرون من التقاتل حول السلطة، تقاتلٌ بين الممسكين بدواليب الحكم وبين رجال مصلحين حاولوا إرجاع الحكم إلى نصابه ليكون حكما شوريا مزينا بالعدل كما كان حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما كان في الخلافة الراشدة. فبعد الانكسار التاريخي- والمقصود به تحول الحكم الاسلامي من الخلافة الراشدة الى الملك العاض المتمثل في حكم بني أمية ومن جاء بعدهم -حدث انفصال بين رجال الدعوة ورجال الدولة كما  نبأنا بذلك الرسول الكريم في أحاديث منها: ” ألا إن رَحا الإسلام دائرةٌ فدوروا مع الكتاب حيثُ دار. ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا يا رسول الله كيف نصنع ؟ قال : كما صنع أصحاب عيسى بن مريم نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله عز وجل”[1].

يقول الإمام عبد السلام ياسين عن هذه الثنائية: “أقصد بالثنائية بين الدعوة والدولة وقوف أهل القرآن علماء الأمة بجانب مطالب العدل والاستقامة والخلق والدين عينا رقيبة مِنْ مكـان عِز القرآن وسيادته على السلطان ليشتغل أهل السلطـان الحكام مديرو دواليب الدولة بتسيير دواليب الدولة وإدارة مؤسساتها تحت مراقبة يمارسها الشعب وتنطق بها الدعوة وتراقب وتحاسب”[2].

هذا الانفصال بين الدعوة والدولة في القرن الأول كانت له نتائج وخيمة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية. فعلى المستوى العلمي تشتت الفقه، وغاب الفقه الجامع الذي كان يتميز به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يجمع الدولة إلى الدعوة ولا يفرق بينهما. وتولد بحكم تراكم الانحراف عبر السنين تسطيح مفهوم الإسلام في نسك فردي وصلاة صورية وحياة خانعة  للحكم الجائر المبعد للدين عن مجالات الحياة.

وتحول الفقه تباعاً إلى فقه أفراد، ينظر إلى الشريعة نظرة تجزيئية عاجزة عن الجمع في نظرة واحدة بين الدعوة والدولة في علاقتهما الأولى على عهد النبوة والخلافة الراشدة.

ومع الملك الجبري استفحل هذا الانشطار والتشظي، واتخذ بفعل آلة الاستعمار التدميرية طابعا أكثر عدوانية على الدين، حتى غطت الدولة بصيغتها اللائكية على الدعوة تماما، وألجأتها إلى منابر الوعظ وزوايا الأحوال الشخصية منزويَة، بل مَزوِيّة، بعيدا عن الدولة، مغايرة لها، مضغوطة مِن قِبَلها، مُحارَبَة مضطهدة، أو مُرَوّضة مُدَجنة مُؤَنّسة[3] .

نتائج الانكسار التاريخي على العلم كانت خطيرة حيث تفرغ أهل السياسة لإدارة شؤون الدولة بالتسلط والاكراه والاستحواذ على المال والسلطة وعاش العلماء في كنف السلطان في الغالب وتركوا الخوض في كل ما يتعلق بأمور الدولة اجتهاداتهم اجتهادات تمس الجانب الفردي للمسلم وعلاقته بالله تعالى وبأخيه المسلم تجنبا وهروبا من بطش الحكام، ولم تكن التفاسير بمعزل عن هذا؛ ففسر القرآن الكريم متأثراً بهذا الانكسار التاريخي، وأصبحت الدعوة المتمثلة في مؤسسة العلماء ومن ورائها جماعة المسلمين لا تنظر الى الاسلام  والمسلمين إلا في الجانب الفردي العبادي وتركت امر العدل والشورى والاحسان واقامة الدين لمؤسسة الدولة المنحرفة أصلا عن الهدي النبوي.

التفاسير التي تزيد على المائة  عالجت الواقع بحثا عن حلول المجتمع وقضاياه الفروعية واقتراح تقويم لانحرافاته  في الاحكام الجزئية لكن معالجة الانحرافات الكبرى كانحراف الحكم ودور العلماء وبناء المجتمع على المحبة والتراحم فغائب.

التفسير المنهاجي لعبد السلام ياسين في معرض تدبره للقرآن الكريم كان ينظر الى الآية بنظرتين الاولى نظرة إحسانية تروم اصلاح الفرد وتجديد الايمان والبحث عن معالم للسير الى الله تعالى وصولا الى ذرى الاحسان والنظرة الثانية نظرة استخلافية تروم البحث عن سبل تنزيل آي القرآن على هذا الواقع المتغير تنزيلا يخدم ويهدف الى بناء الخلافة الثانية على منهاج النبوة المبشر بها في الحديث النبوي[4].

هذا البحث عبارة عن دراسة استقرائية لتدبر الامام عبد السلام ياسين لكتاب الله تعالى، دراسة تهدف إلى بيان هذه الثنائية المفقودة في تفاسير من سبقنا بإيمان. ولكثرة تدبرات الإمام عبد السلام ياسين لآيات القرآن الكريم ، فإني سأقتصر على تسعة تدبرات فقط تبين ارتباط الدعوة بالدولة متوخيا البيان والايجاز بما يسمح به هذا البحث.

وقد قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة.

مقدمة:

المبحث الأول: مفاهيم قرآنية بين الفهم الفردي والفهم الجماعي.

المبحث الثاني: التنزيل القرآني على الفرد والجماعة المجاهدة.

المبحث الثالث: محصنات قرآنية للجماعة المجاهدة.

خاتمة:

المبحث الأول: مفاهيم قرآنية بين الفهم الفردي والفهم الجماعي.

1-البر بين المستوى الفردي والجماعي.

قال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ……وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾[5]

إن مما تجدر الاشارة اليه هو احترام الإمام عبد السلام ياسين لاجتهادات العلماء السابقين ويعتبر اجتهاداتهم مناسبة  لظروف عصرهم. مثال ذلك البر في قوله تعالى:﴿ ليس البر… ﴾ .  قال حَبر الأمة ابن عباس في تفسير «ليس البر…»: ليس البر أن تُصلوا ولا تعملوا. فهذا حين تحول المسلمون من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود.[6] وقيل: ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله[7].لكن السؤال من المخاطب بهذا البر، الجواب في تراثنا التفسيري هو المؤمن. والسؤال الثاني من المكلف بتطبيق واشاعة البر في المجتمع، الجواب في تراثنا التفسيري هو المؤمن الفرد أيضا. أما في تفسير الامام المجدد فالمكلف بإشاعة وتطبيق البر ووجوهه هي الدولة قال:”كذلك يرعى الإسلاميون حقوق البر والعدل غداة توليهم الحكم إن شاء الله رب العالمين حين يتحملون عبء التكليف الاجتماعي الأخوي العدلي الإحساني. فمن مسجد الصلاة، وهو المحضن الشـرعي لتجديد الإيمان، تنطلق رحمة البر والبذل والعمل الصالح”[8].

على أنه لا يجب أن يفهم أن المؤمن ليس مخاطبا بتطبيق وجوه البر المذكورة في الآية بل على العكس هو مطالب به في خاصة نفسه وفي من هم تحت مسؤوليته، ويبقى تطبيق وجوه البر من طرف الدولة أكثر نفعا لأن خيره يعم الجميع.

2- اقتحام العقبة للفرد والجماعة.

قال سبحانه تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾[9].

الِاقْتِحَامُ: الدُّخُولُ فِي الْأَمْرِ الشَّدِيدِ، وَذِكْرُ الْعَقَبَةِ هَاهُنَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمُجَاهِدَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَجَعَلَهُ كالذي يتكلف صعود العقبة، تقول: لَمْ يَحْمِلْ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشَقَّةَ بعتق الرقبة ولا الإطعام.

التفاسير تفسر العقبة بانها الصراط ، بانها نار في جهنم، بأنها الصراط و الميزان و الحساب و عقبة الحشر والنشر[10]. وتدعو المؤمن لتجاوز هذه العقبة عبر بعض أعمال البر الفردية كالعتق والاطعام ثم اختلفوا: هل هذه العقبة يكون اقتحامها في الدنيا أم في الآخرة؟

يقول الإمام عبد السلام ياسين عن اقتحام العقبة المأمور به من الله تعالى في كتابه، موسعا معنى العقبة وانواعها وآفاقها، وناظرا إليها من زاوية المؤمن الفرد وزاوية الدولة، أي من زاوية الدعوة والدولة:

“أخبرنا اللّه العليم الحكيم بثلاثة أبعاد هي مجاري العقبة وآفاتها:

: -1 الرق الذي يستعبد الإنسان فإذا هو رهين بإرادة غير إرادته.

-2 العوز الذي يقعد بالمسكين واليتيم، تمنعهم المسغبة والاهتمام بالقوت عن كل خير. وقال جوع وطعام، ونداء للإنسان أن يرتقي من حضيض أنانيته بالعطاء ورحمة المقهور. وهو ضمنيا واستنباطا نداء للأمة المسلمة أن تقتحم عقبة الاقتصاد ليؤتى حقه كل ذي حق، وليسود الرخاء فتسود معه الأخوة والإيمان.

-3 الانفراد عن جماعة المؤمنين الذين يتأتى السفر والاقتحام في كنفهم.

للفقيه الذي يبحث عن الأحكام العينية الجزئية أن يفسر فك الرقبة وإطعام المسكين واليتيم والكينونة مع الذين آمنوا في سياق تفصيل الأحكام الفقهية. لكن أي شيء يمنعنا أن نفهم عن اللّه عز وجل ما وراء الأحكام التفصيلية، ما يجمع تلك الأحكام وما يربطها وما يكون منها معرفة شمولية للإنسان وسلوكه عبر العوائق والحواجز التي تعـــترض صعوده في معارج الإيمان ؟ فك الرقبة تحرير الإنسان من العبودية لغير اللّه عز وجل، إطعام اليتيم والمسكين، تحرير لطاقاته لينتج ما به يستطيع أن يطعم المعوزين ابتداء من إطعام نفسه، الكينونة مع الذين آمنوا تحرير للإنسان المؤمن الفرد من العزلة والخمول والانفراد، وإدماج له في الجماعة ليتحزب لله عز وجل. ثلاث مجالات: المجال النفسي، والمجال الاقتصادي، والمجال السياسي”[11].

هذا التدبر وتوسيع معنى فك الرقاب والاطعام وإنزال الآية من طرف الدولة ليس معناه  الغاء الأحكام التفصيلية المخاطب بها كل مؤمن، فلا شك أن عتق الرقاب واطعام الطعام من أجل الاعمال المقربة إلى الله تعالى لكنها تبقى قليلة على الامة الاسلامية لأنها لم تنظم في سلك جماعي يهدف تحرير الامة ككل. قال ياسين: “ولا يتحقق الاقتحام بها مادامت أفعالا فردية متناثرة، مادامت لم تدخل في نظام محكم يتحرر فيه الإنسان وتتحرر فيه الأمة من كل عبودية.

للفقيه أن يدرج فك الرقاب في باب الكفارات، ويدرج إطعام اليتيم والمسكين في باب الصدقات، ويدرج انضمام المؤمن للجماعة في باب الوعظ والرقائق. أما من يتخذ القرآن إماما ليبصر المنهاج الكلي فلا يسعه ما يسع الفقيه، لا يسعه أن يقف عند ذلك التصنيف”[12].

المبحث الثاني: التنزيل القرآني على الفرد والجماعة المجاهدة.

1- العلاقة الرابطة بين المؤمنين:

العلاقة الرابطة بين المؤمنين يوضحها قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾[13].

حددت الآية مجموعة من الصفات الواجب توفرها في جماعة المسلمين، والتي لن تتحقق إلا بتظافر جهود مؤسسة الدعوة والدولة وهي:

1-1: الولاية بين المؤمنين: العلاقة بين المؤمنين علاقة ولاية ﴿ أولئك بعضهم أولياء بعض﴾[14]. هذه الولاية علاقة محبة وتناصر وتعاون. وهذه الولاية روحها الحب في الله والبغض في الله، تتغلغل هذه الولاية بين المؤمنين وهذه الذلة بتظافر جهود الدعوة والدولة. جهود الدعوة المتمثلة في التربية وجهود الدولة بتنظيم الجهاد بجميع أنواعه.  قال الامام عبد السلام ياسين: “لا يتم إيمان أحد بدون تغلغل هذه الوَلاية في كيانه القلبي، يصدِّقُ هذا التغلغلَ الفعلُ والمشاركةُ والالتزام الجهادي بالنفس والمال”[15].

1-2: الحب في الله: قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[16]. في كتب التفسير كلام كثير عن حب الله للعبد، وعلاماته، وشروطه، وحب العباد لله، وبرهان ذلك بالعمل الصالح.  الإمام المجدد ينظر الى الآية ويفهمها في سياقها النبوي الصحابي فيقول: ” هنيئا لأحباب الله أولياء الله رحيقَ المحبة سُقوه قروناً طويلة في ظلال الخلوات، وأهنأُ منه ما سُقِيَه الصحابة تحت ظلال السيوف، وما يوعد به “الإخوان” بعد الصحابة تحت ظلال البنادق وأزيز الصواريخ وعجيج دواليب الدولة الإسلامية تعْمر الأرض، وتنشر لواء العزة بالله، وتبلغ للعالمين رسالة الله”[17].

المحبة التي رُزِقها الصحابة رضوان الله عليهم كانت نتاج تربية نبوية، وكانت نتاج عملهم الصالح وذروة سنام هذا العمل الجهاد في سبيل الله، ولن نرزق تلك المحبة العالية ونكون الإخوان الذين بشر[18] بهم الرسول الكريم إن لم نكن على الهدي النبوي.

1-3:أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.

ومن التحاب في الله واللين للمؤمنين تتألف عناصر القوة الجهادية، وعناصر الدفع في وجه العدو. قال تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾[19]. ما قدروا على تلك الشدة إلا بوجود هذه الرحمة. الرحمة والشدة أمران لا يفترقان ولا يمكن مخاطبة المؤمن الفرد بها خاصة الشدة على العدو والتي جاءت مخاطبة للجماعة المؤمنة.

قال الإمام عبد السلام ياسين: “الذلة السهولة واللين. وجهاد الكافرين بصلابة من لا يخاف في الله لومة لائم إنما يتأتى لمن أسند ظهره لله ولإخوته في الله وإن الجمع في شخصية المؤمن بين طرفي الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين لمن أهم بواطن التربية وأدقها”[20].

هذه الآية  تتحدث عن صف الجماعة المؤمنة وما يجب ان يميزه، وتتحدث عن صفات الفرد المؤمن. قال الإمام عبد السلام أيضا: “بهؤلاء الكرام جعل الله لنا الأسوة، نتأسى بهم ونفعل فعلهم. وفي الآيات خصال ثلاث بارزة للجماعة المؤمنة. أولها : شدتهم على الكفار فإذا صغنا هذا بلسان عصرنا قلنا : تميزهم عن الجاهلية وبغضهم لها. ثانيها : رحمتهم المتبادلة، ونقول : انتماؤهم العاطفي بعضهم لبعض. وثالثا : ابتغاء رحمة الله، ونقول : نظرتهم إلى الإنسان والعالم نظرة إيمانية منهاجية”[21].

2– مكونات المجتمع الاسلامي:

يقول الله عز وجل﴿: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[22]

نتمعن في لفظة الأعراب في سورة التوبة لنعلم أن الأعراب خليط من مسلمين صادقين، وآخرين منافقين، وآخرين قاعدين متخلفين، وآخرين يخونون عهد الله.

وننزل هذه الآية على واقعنا فنقول بأنهم  أيضا طبقةٌ من المسلمين لكن مواصفاتها  تختلف عن مواصفات الجماعة المؤمنة المتميزة، فطبقة الأعراب لا تتميز بالإيمان ولا بالهجرة والنصرة والجهاد . قال الإمام عبد السلام ياسين: “وكل مجتمع إسلامي قائم لا بد أن تكون في هوامشه أعرابية قاعدية على أصناف ما وصف الله عز وجل من صفات أعراب العهد النبوي. منهم منافقون، ومنهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومنهم من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بالمؤمنين الدوائر، ومنهم، ومنهم. فإن كثيرا من الناس لا يحركهم إلا الإخلاصُ لمصالحهم، ولا يحُدُّ من أنانيتهم إلا قَهْرُ وازعِ السلطان والخوف من سطوته”[23].

التدبر القرآني في مواصفات الأعراب يفيدنا في معرفة صفاتهم التي تميزهم عبر التاريخ، وان معرفتهم لهي الخطوة الاولى نحو العلاج والحل. وان الهدي النبوي في التعامل معهم لأمر ضروري، فمرة ينفع معهم الوعظ والرفق ومرة ينفع معهم الحذر، وهذه مهمة مؤسسات الدعوة. ومرة ينفع معهم قهر وازع السلطان كما قال الإمام عبد السلام ياسين، وهذه من مهمات الدولة.

3- مقتضيات وحدود وشروط الدخول في جماعة المسلمين

قال الله عز وجل:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ﴾[24]

في تفسير علمائنا رحمهم الله هذه الآيات فيها فقه في الفرائض، فقد كان الأنصار والمهاجرون يتوارثون في أول الهجرة وحاجة المسلمين لتضامن اقتصادي ثم نسخ الحكم.

أما فقه الآيات المحكم الذي ينير لنا مقتضيات وحدود وشروط الدخول في جماعة المسلمين فهو مفصل بكل دقة.

فالمؤمنون حق الإيمان كما جاء في الآيات هم المهاجرون والانصار قال الامام عبد السلام ياسين: “معنى هذا من حيث تأليف وتنظيم جماعة المسلمين، المخاطبة بالقرآن، المسؤولة عن إبطال الباطل وإحقاق الحق، عن تغيير المنكر وإحلال المعروف محله، أن المؤمنين الذين قطعوا حبال الجاهلية، وأبلوا البلاء الحسن في نصرة دين الله وإيواء القضية الإسلامية هم وحدهم دون غيرهم من أعراب المسلمين أهل الولاية والحل والعقد”[25].

يقرأ الناس هذه الآيات التي تتحدث عن الهجرة والنصرة فيحسب أنهما حركتين تمتا في العهد النبوي خاصتين بمجتمع الصحابة، والفرد المؤمن لا علاقة له بها. بينما في حقيقة الامر فهما صفات رئيسيتان تميزان الطليعة المجاهدة الى يوم القيامة. قال الامام عبد السلام: “لا تحسبن أن الهجرة والنصرة معنيان قاما بجماعة الصحابة ثم ذهبا، كلا! فإن معاني القرآن الكريم خالدة، فعلينا أن نبحث عن مناط حكمي الهجرة والنصرة في واقعنا الفتنوي، فإذا حددنا من هو المهاجر، وما هي الهجرة والجهاد، وحددنا ما هي النصرة والإيواء، اتضح لنا كيف ننزل تلك الأحكام على مجتمعاتنا وفئات الناس فينا.

ليست الهجرة والنصرة حركتين تاريخيتين انتهتا، المهاجر من هاجر ما حرم الله كما جاء في الحديث، والهجرة قطع لما بينك وبين ماض بعيد عن الالتزام بالجهاد، والنصرة بذل وعطاء وانتصار لقضية الإسلام”[26].

مفهوم الهجرة والنصرة يجب أن يعاد فهمه بما يتوافق مع تغير العصر  فالهجرة الآن في حق المؤمن هي هجرة المعاصي من جهة وهجرة البيئة الفاسدة أو الغافلة عن الله وعن الجهاد، ولزوم مجالس الدعوة والايمان لهو الهجرة في زماننا. قال الامام: “وخروج الوافد على الجماعة في سياحات الدعوة ومعسكرات الشباب يتيح له أن يبتعد عن مألوفاته وينقطع عن بيئته المرفهة الغافلة. وبذلك يطوي المراحل في قطع حبال الجاهلية والارتباط المتين بالجماعة”[27].

الخطاب في الآية ليس خطابا للفرد المؤمن وحسب بل خطاب للجماعة المؤمنة المجاهدة، وان تغييب هذا الفهم في تفاسيرنا التي تخاطب الفرد المؤمن ولا تعمل على تنزيل الآية على واقعنا المفتون المبتعد عن شرع الله وعن الهدي النبوي ليعتبر نقصا كبيرا . قال الامام عبد السلام ياسين: “فالجهاد في سبيل الله والهجرة إلى الله، والنصرة لدينه، أعمال مطلوبة مأجورة أساسية في الدين، في كل عصر وحين. وإنما فاز أهل السابقة في الإسلام، وأهل الغناء في الإسلام، وأصحاب الحظ من الله بالدرجة العظمى، لأن جهادهم وهجرتهم ونصرتهم كانت والإسلام محاصر محارب، وكلما وجد الإسلام في حصار، كما هو الأمر في عصرنا، فأهل السابقة والغناء والحظ من الله هم أهل الولاية، ومن لحق بالجماعة من بعد الفتح أو أثناءه -والفتح في عصرنا قيام الدولة الإسلامية- فيعمه قول الله تعالى فيما مر معنا في سورة الأنفال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ﴾[28][29]

4- خصائص مجتمع العمران الاخوي:

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[30]

إن مما يميز مجتمع العمران الاخوي في المنهاج النبوي لعبد السلام ياسين ثلاث خصال : الهجرة والنصرة والاتصاف بالمواطنة الايمانية.

4-1: المحبة لحام يربط المؤمنين

إن مما يجمع التنظيمات البشرية والمجتمعات لهي الالتفاف والاتفاق على مصالح مشتركة، ويجمعهم ايضا الولاء سواء للوطن أو القبيلة أو الدين او الايديولوجيا. هذا كله يمكن ان ينظم التجمع البشري ويمكن ان يبني علاقة بين افراد هذا التجمع لكن سرعان ما يتفرق الناس ويتشتتوا خصوصا اذا تضاربت المصالح، أو حدث خلاف بينهم. أما المجتمع المسلم فان اعظم رابط يجمع بينهم هو المحبة الخالصة المنبعثة من حبهم لله ولرسوله وللإسلام. يقول الإمام عبد السلام: “هذه المحبة كانت طاقة هائلة مجمعة، وكانت اللحام بين أعضاء الجسد الجماعي. ولكيلا تتبدد ولكيلا تخطئ المحبة مقصدها نظمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار، ونظمها الله حين جعل أولي القربى أحق بها والوالدين قبل لك، ثم الجار والصاحب بالجنب.

ليست هذه المحبة تائهة مثالية إنما هي لحام بين المؤمنين مجلاه في العمل اليومي والبذل اليومي والتعاون اليومي”[31]  

4-2: مجتمع العمران الاخوي.

مجتمع العمران الاخوي هو المجتمع الذي تربط بين افراده روابط الايمان والحب والجهاد في سبيل الله مجتمع يلخص مواصفاته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: ” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”[32].

يقول الإمام عبد السلام ياسين عن هذا المجتمع والذي لن يكون ولن يشتد ويقوى إلا بتظافر مؤسسات الدعوة والدولة فهناك خطاب قرآني في الآية يخاطب الفرد المؤمن وهناك خطاب يخاطب الجماعة المؤمنة. فقال: “بين المواطنين في المجتمع القانوني روابط مصلحية ينظمها قانون وضعي لا غير. وبين المسلمين ينبغي أن تلُف المواطنةُ الإيمانيَّةُ المواطنة الجغرافية السياسية القومية برداء الرحمة، رحمةِ: ﴿فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾[33]. هذه المواطنة المزدوجة يشير إليها ويُشَرِّعُها قول الله عز وجل عن الأنصار الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانهم المهاجرين ونصروا وأنفقوا وأحبوا: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1.

“تبوَّأوا الدار والإيمان”. لو تبوأوا مع الآخرين الدار فقط لكان الكل مواطنين يجمعهم الوطن وتملي عليهم ضرورة التعايش قوانين وضعية لحفظ المصالح. لكنهم تبوأوا الدار وتبوأوا الإيمان كما تبوَّأهما من هاجر إليهم. وبهذا التبوُّءِ الثنائي كانت الأخوة التي أثنى الله عز وجل عليها ونقرأ عنها بإعجاب في السيرة.”[34].

المبحث الثالث: محصنات قرآنية للجماعة المجاهدة.

في القرآن الكريم توجيهات كثيرة للمؤمن ولجماعة المؤمنين، وانتقيت منها ثلاثة توجيهات سميتها تحصينات لأنها تحصن المؤمن وتحصن الجماعة المجاهدة، فأول شرط لاجتماع المؤمنين هو وجود القائد المربي الرحيم اللين، الغير الفظ المستشير لأصحابه في أمرهم. والشرط الثاني لاجتماعهم هو ابعادهم عن حب الدنيا رأس كل بلية، والشرط الثالث: هو ابتعادهم عن آفة عصيان أولي الأمر خاصة في مواطن الجهاد.

1- صفات القائد:

قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[35].

هذه الآية تتحدث عن القائد المربي محمد صلى الله عليه وسلم وكيف ينبغي له أن يكون ليقتدي به من بعده كل مسؤول وكل قائد ، وقد وصفت الآية صفات هذا القائد والمتمثلة في الرحمة والليونة والرفق والمشورة وغيرها من الصفات التي تجمع الناس على القائد ولا تفرق.

1-1: رحمة القائد.

يقول الامام عبد السلام ياسين عن الدور التربوي للقائد فهو الذي يربي اصحابه على الايمان وعلى الرحمة وعلى الحب وبحبهم له وحب بعضهم لبعض يتقوى التنظيم وتتقوى روابطه، فقال: ” أرأيت الذين كتب عليهم الجهاد والقتال والشدة والغلظة على الكافرين.

كانوا يتماسكون بغضب ثوري أو حمية قبلية؟ كلا، بل الرأفة والرحمة منبعثة من قلب القائد النبي الأمين تسري إلى القلوب وتتألفها وتحبب إليها الإيمان”[36].

2-1: المشورة.

في تفاسيرنا كلام كثير عن الشورى ومواصفات من يستشير ومن يستشار معهم، وهل الشورى ملزمة للقائد ام لا، وهي اجتهادات غنية ثرية تحتاج الى الاستفادة منها والبناء عليها خصوصا والزمان ليس هو زمانهم ولا ظروفنا هي ظروفهم. يقول الامام: “يتوقف فقه المسألة أولا على طبيعة العلاقات بين المستشير والمستشار. فبين الذين نزل فيهم القرآن ونزل عليهم وبين رسـول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسود المحبة والثقة والوفاء. كانوا تجمعهم الصحبة ويجمعهم الإيمان. كانوا يجمعهم سياق ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾[37]. فلم يكن مجالٌ للنـزاع الـمُغرض بين المستشير والمستشار. ولم يكن مجالٌ للتزلف والكذب. ورغم أن المواقف الجهادية كانت صارمة حاسمة”[38].

هذه الآية جمعت مواصفات القائد المربي وهي تخاطب الفرد والجماعة معا. قال الامام ملخصا لها ولتوجيهاتها: “هذه الآية الكريمة الجامعة فصَلَتْ الحدودَ بين الفظاظة والعنف وبين الليونة واللطف. فبالعفو الدال على سلامة القلب، وبالاستغفار لإخواننا الدال على وَلائنا إياهم في الله، وبالشورى في الأمر الدالةِ على الرغبة في التعلم وإشراك إخواننا في أمرنا ينفسح أُفُقُ الوَلاَية طَيِّباً وَدوداً. لكنها الـمُيوعة إن غابت لحظةُ العزم وصرامة القرار تتبعهما الطاعة.”[39].

2- الخوف من الدنيا

قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[40].

مجلة الجماعة: الشعبة الحادية والسبعون : الخوف من غرور الدنيا

حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة ومن ورائهم الامة من الدنيا وزخرفها فقال: ” إِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَقْتَتِلُوا، فَتَهْلِكُوا، كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ”[41].

على الجماعة المؤمنة أن تولي هذا الامر ما يستحقه لكي لا تتحول الجماعة المجاهدة الى مجموعة أفراد همهم الدنيا فتهلكهم وتهلك من بعدهم. قال الامام ياسين: “وإن أخوف ما يخاف على جند الله حين تبسط لهم الدنيا السلطان والمال وما يواكبهما من مغريات، أن تتبدد هممهم، ويرتد طرفهم من المطمح الأعلى، دوام الشوق إلى الله، والصبر على مشاق الطريق إليه، إلى السفاسف والتردي في التكاثر والتنافس”[42].

التنافس على ملذات الحياة الدنيا ومغرياتها يمكن تجنبه أو التقليل من حدته وذلك باعتماد طرق المراقبة الصارمة لكل من تسلم مهمة من مهمات الدولة هذا بالاضافة الى التركيز على الوازع الايماني الاخلاقي، وقبل إسناد أي منصب لفرد من الجماعة المجاهدة ينبغي أن ينظر أين همته، ما تعلقه بالله وخشيته، كيف يمهد لآخرته. هل يغتر بالله فيرخص لنفسه الآثام [43]. إنه بكل بساطة تعاون مؤسسات الدعوة والدولة على تحصين جند الله ضد مغريات الدنيا.

حذر الله ورسوله من الاغترار بالدنيا، وتجد كتب التفسير والوعظ والرقائق تتحدث عن الدنيا وزخرفها وتتحدث عن فتنة الشيطان المزين للدنيا في عيون الناس، وتجدها تتحدث عن أمثلة للزهاد المدبرين المعرضين عن الدنيا بدأ من الصحابة رضوان الله عليهم وصولا الى الزهاد الصوفية، لكن لا أحد يتحدث عن الاغترار بالدنيا وما يسببه في مؤسسات الدولة من خراب. قال الامام عبد السلام ياسين:  “الغرة في الحياة الدنيا والغرة بالله منفذان منهما يدخل على الفرد عدوه الأول الشيطان. وعلى الأمة يدخل من ذينك المنفذين فساد الرشوة، والظلم، والمحسوبية، وهتك الحرمات، والاستخفاف بالمسؤولية. من هاتين الثغرتين يهجم العدو على الفرد فيخرب دينه، وعلى الأمة، عبر الضمائر الخربة، فيشتت شملها”[44].

3- عصيان أولي الأمر: أخطر الأمراض

قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾[45].

الآية نزلت في سياق غزوة أحد التي عصى فيها الرماة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا مواقعهم ونزلوا لجمع الغنائم، فعصيان القائد في الجهاد من أكبر الآثام وأخطر الأمراض لما يترتب عليها من نتائج وخيمة على الامة الاسلامية. في مسألة عصيان القائد يتدبر الامام عبد السلام ياسين قصة طالوت مع جنده ويستخلص منها دروسا وعبر يمكن للجماعة المجاهدة أن تستفيد من دروسها وعبرها لكي لا تقع في المحظور، فإن الامراض هي نفسها لا تتغير وإن تغيرت أشكالها.

في قصة طالوت مع جنده[46] ابتلى الله الجند بعدة ابتلاءات وامتحانات ومحصهم بسببها، الامتحان الاول: امتحان الاستعداد لبذل النفس في سبيل الله. ولم ينجح فيه إلا قليل، امتحان النزول عن الأنانية الفردية، وهو نزول بدونه لا يمكن جمع الجماعة، ثم امتحان الطاعة الكلية قبل لقاء العدو، فإنه ما لم يغلب ويقهر عدو الأنانية المتمنع على الطاعة لأولي الأمر لا سبيل لغلبة العدو

ثم امتحان الاتكال على الله.

قال الإمام عبد السلام ياسين: “كان لا بد من تمحيص العناصر المريضة في الجند وفرزهم. فعندما بقي المؤمنون حق الإيمان جاءهم نصر الله. فكان الدفاع منسوبا لله وكان النصر من عنده. وما الناس في العملية إلا مجلى للمعاني المتصارعة: الكفر والإيمان. فكان لا بد أن يمثل الإيمان رجال صادقون برئت همتهم من مرض القعود (الامتحان الأول). وبرئت أنفسهم من وباء الحسد والأنانية والاستعلاء في الأرض بغير الحق (الامتحان الثاني). وبرئت جوانحهم من آفات العصيان عندما يصدر أمر للتنفيذ في الساعة الحرجة (الامتحان الثالث). وبرئت قلوبهم من مثبطات الاعتماد على غير الله (الامتحان الرابع)”[47].

خاتمة:

ابتليت الأمة الاسلامية بالانكسار التاريخي منذ القرن الأول المتمثل في فساد نظام الحكم الإسلامي، والذي كان له نتائج وخيمة على جميع المستويات. بالنسبة للمستوى العلمي حدث انفصال بين مؤسسة الدعوة المتمثلة في العلماء ومن ورائها الشعب المسلم وبين مؤسسات الدولة، وتفرغت كل مؤسسة لمهمتها، وحدث بسبب هذا ضياع الفقه الجامع بين الدنيا والآخرة. وأصبحت الاجتهادات تمس الاجتهادات الفروعية الجزئية، ولم تكن كتب التفسير لتشذ عن هذه القاعدة؛ فجاءت تدبرات الإمام عبد السلام ياسين لآيات القرآن الكريم لتجمع هذا المتفرق ولتعيد الأمر إلى نصابه، ولتنزل الآية على مؤسسات الأمة: دعوة ودولة، فردا وجماعة.   

لائحة المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

-البخاري، محمد بن إسماعيل. الجامع الصحيح، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ.

-الثعلبي، أبو إسحاق. الكشف والبيان عن تفسير القرآن، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى 1422، هـ – 2002 م

-ابن حنبل، أحمد. المسند، المحقق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م.

-الدارمي، أبو محمد السمرقندي، سنن الدارمي، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ – 2000 م

– الزاوي، محمد. ثنائية “الدعوة والدولة” تأصيل الاتصال وتتبع مسار الانفصال، ينظر المقال في : https://www.yassine.net

-الطبراني، أبو القاسم. المعجم الصغير، المحقق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي , دار عمار – بيروت , عمان، الطبعة: الأولى، 1405 – 1985م.

-الطبري، أبو جعفر. جامع البيان في تأويل القرآن، المحقق: أحمد محمد شاكر مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م.

-مسلم، أبو الحسن القشيري النيسابوري. الجامع الصحيح، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.

-ياسين، عبد السلام:

 الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت الطبعة الثانية 2018

العدل الإسلاميون والحكم،  مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، الطبعة الاولى، 2000م.

الإسلام غدا، مطبعة النجاح – الدار البيضاء، الطبعة: الأولى، 1973م.

المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للنشر والتوزيع – القاهرة، الطبعة الثانية ، 1989م.

تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، الطبعة الثانية: 1996م.

جماعة المسلمين ورابطتها، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة: الثانية ، 2011م.

ياسين، عبد السلام. الشورى والديموقراطية،  مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، الطبعة: الثانية، 1996م.

ياسين، عبد السلام. مقدمات في المنهاج، تصفيف دار الخطابي مطبعة الأمة، الطبعة: الاولى، 1989م.


[1] – الطبراني، أبو القاسم. المعجم الصغير، المحقق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار – بيروت،  عمان، الطبعة: الأولى، 1405 – 1985م. باب الفاء، من اسمه الفضل، رقم: 749.

[2] – ياسين، عبد السلام. العدل الإسلاميون والحكم،  مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، الطبعة الاولى، 2000م، ص: 673.

[3] – الزاوي، محمد. ثنائية “الدعوة والدولة” تأصيل الاتصال وتتبع مسار الانفصال، ينظر المقال في : https://www.yassine.net

[4] – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ  أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ” ثُمَّ سَكَتَ. رواه ابن حنبل، أحمد. المسند، المحقق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ /2001م. حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَوَّلُ مُسْنَدِ الْكُوفِيِّينَ، رقم: 18406.

[5] – البقرة: 177.

[6] – الطبري، أبو جعفر. جامع البيان في تأويل القرآن، المحقق: أحمد محمد شاكر مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م، 3/337.

[7] – نفسه.

[8] – ياسين، عبد السلام. العدل الإسلاميون والحكم،  218.

[9] – البلد، 11-18.

[10] – الطبري، أبو جعفر. جامع البيان في تأويل القرآن، 24/439- 440. الثعلبي، أبو إسحاق. الكشف والبيان عن تفسير القرآن، تحقيق: أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى 1422، هـ – 2002 م، 10/210.

[11] – ياسين، عبد السلام. مقدمات في المنهاج، تصفيف دار الخطابي مطبعة الأمة، الطبعة: الاولى، 1989م، 56-57.

[12] – ياسين، عبد السلام. مقدمات في المنهاج، 58.

[13] -المائدة: 54.

[14] – الأنفال: 72.

[15] – ياسين، عبد السلام. العدل الإسلاميون والحكم، 271.

[16] – المائدة: 54.

[17] – ياسين، عبد السلام. الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت الطبعة الثانية 2018م، 1/173.

[18] – منها حديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي “، قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: ” أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي ” رواه أحمد في المسند، مُسْنَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، مُسْنَدُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رقم: 12579. وفي رواية الدارمي، أن أَبا عُبَيْدَةَ بْن الْجَرَّاحِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ أَسْلَمْنَا وَجَاهَدْنَا مَعَكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي». الدارمي، أبو محمد السمرقندي، سنن الدارمي، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ – 2000 م. وَمِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ ، بَابُ: فِي فَضْلِ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ،رقم: 2786. لاحظ أخي القارئ قول أبي عبيدة وكيف أن الجهاد والاسلام والذكر كل  لايفترق.

[19] – الفتح: 29.

[20] – ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للنشر والتوزيع – القاهرة، الطبعة الثانية ، 1989م.ص:83.

[21] – ياسين، عبد السلام. الإسلام غدا، مطبعة النجاح – الدار البيضاء، الطبعة: الأولى، 1973م. ص: 184.

[22] – الحجرات: 14.

[23] – ياسين، عبد السلام. الإحسان،  2/509.

[24] -الأنفال: 72.

[25] – ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، 60.

[26] – المرجع نفسه، 60.

[27] -نفسه، 183.

[28] -الأنفال: 75.

[29] – ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، 61.

[30] – الحشر: 9.

[31] – ياسين، عبد السلام. الإسلام غدا، 230.

[32] – مسلم، أبو الحسن. الجامع الصحيح، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ تَرَاحُمِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَعَاضُدِهِمْ، رقم: 2586.

[33] – آل عمران: 103.

[34] – ياسين، عبد السلام. العدل الإسلاميون والحكم،  197.

[35] – آل عمران: 159.

[36] – ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، الطبعة الثانية: 1996م.1/70-71.

[37] – سورة الشورى، 36-41. وينظر سياق السياق ومواصفات الجماعة المؤمنة المؤهلة للشورى والمخاطبة بهذا الامر الالهي العظيم في كتاب الشورى والديمقراطية للإمام عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، الطبعة: الثانية، 1996م. 14-40.

[38] – ياسين، عبد السلام. العدل الإسلاميون والحكم،  662.

[39] – ياسين، عبد السلام. جماعة المسلمين ورابطتها، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة: الثانية ، 2011م. 109.

[40] – سورة فاطر: 5.

[41] – مسلم، أبو الحسن، الجامع الصحيح، كتاب الْفَضَائِلِ، بَابُ إِثْبَاتِ حَوْضِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ، رقم: 2296.

[42] – ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، 359.

[43] – المرجع نفسه، 360.

[44] – نفسه.

[45] – آل عمران: 152.

[46] – القصة كلها في سورة البقرة من الآية 246 إلى الآية 252.

[47] – ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، 111.