المرتكزات القرآنية لمذهب الأنسنة في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين

د. عز الدين معيميش، باحث في الفكر الإسلامي
كلية العلوم الإسلامية – جامعة الجزائر – الجزائر
مقدمة
يقلب النموذج الإسلامي في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين وفقا للرؤية القرآنية سلّم قيم المفاهيم الإنسية المادية؛ ليعطي الأولوية للقيم الخلقية و الروحية بدل القيم المادية المتمثلة في الثراء والجاه ليؤسس لنزعة إنسية محكومة بمركزية المقاصد القرآنية؛ فيستقصد الإنسان المترقي خلقيا وروحيا، الفاعل النشيط وصاحب الضمير الحي؛ الذي يقابل النموذج الحديث الذي يجسّده الفرد، المواطن المرقَّم المبرمج، المُنْهَك؛ والذي “لا عجب أن يصبح حينئذ هذا الإنسان كائنا مشوّها، أصما، أبكما، أعمى و دابة مخطومة” ( ياسين عبد السلام، الإسلام والحداثة، ص147).
فالحداثة الغربية في نظر الأستاذ ياسين تحرم الفرد من أقدس حقوقه: وهو حق معرفة الله عز وجل والاستعداد للقائه، وتغرقه في سيل لا ينقطع من المنتوجات الاستهلاكية المتجددة إذا كان مواطناً في بلد غني ديموقراطي، أو تَغطِسُه في مستنقع البؤس والهم إذا كان مجرد “شيء” يستعبده نظام جبري متخلف،كما تُلاَزِم الحداثة التي يبدو أنها استوطنت البلدان الغنية في الشمال مستوى معينا من العيش والتعليم، مستوى ماديا راقيا؛ كل ذلك تحدوه ثقافة انحلالية لا تنفك عن مستوى الحياة المادية، والتمتع بالحقوق الديموقراطية، ولا تنفصل عن الانحطاط بالإنسان عبر دغدغة غرائزه البهيمية بواسطة الفيلم والأغنية والملاهي، ليصبح النداء الوحيد الذي يبلغ الأسماع في عصر الحداثة هو النداء الدوابي، ولتنحصر الروابط الاجتماعية في العلاقة المهنية العابرة في المدن الأخطبوطية الصاخبة التي يلفها الضباب الأسود الملوث.
وعليه فإن هذه الورقة المقترحة تبحث في المنهاج النبوي الذي أسّسه الأستاذ ياسين في بناء أنسنة أخلاقية جامعة لمبادئ الحرية والعدالة والكرامة، ومؤسسة لسلّم قيمٍ يرتفع بالإنسان من مصاف الدواب والأنعام إلى الكائن العاقل العابد المعمّر؛ وتناقش الاتجاهات المعاصرة في فكر الأنسنة؛ التي خرجت من رحم الحداثة، وانتهى أكثرها إما بتنميط الإنسان أو اختزاله إلى رقم طبيعي أو نفيه في فلسفة الحداثة الجديدة؛ فلسفة موت الإنسان، وتقدّم بعض المراجعات والاستدراكات للرؤى الفكرية الإسلامية في هذا المجال؛ مستخلصين المرتكزات القرآنية لمذهب الأنسنة في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين في الفرد والمجتمع والدولة، معتمدين على المنهج الاستقرائي والمنهج التحليلي؛ مع اتباع أسلوب المقارنة والنقد والتوجيه.
والإشكال الذي طرحته وحاولت الإجابة عنه: ما موقع الإنسان في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين ومشروع المنهاج النبوي؟ وهل تأثر في أطاريحه بأفكار الأنسنة الحداثية أم أنه تجاوزها ونقضها وقدّم بديلا قرآنيا عنها؛ إعمالا لما كان ينادي به من أسلمة للحداثة؟
ولذلك فغرض هذا البحث ليس العرض والتقرير لما تضمنه فكر الأستاذ ياسين في كتبه ومقالاته وما كتب عنه؛ وإنما في إبراز الرؤية العميقة لفكر أحد رواد الدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي المعاصر في أهم قضية فجّرها فكر الحداثة منذ القرن السادس عشر؛ إذ الوصول إلى بلورة منظومة متكاملة تهز كيان ما اصطلح عليه بفكر “الأنسنة” الحداثي من خلال المرجعية العليا؛ يعتبر برأيي أهم الإنجازات الفكرية والثقافية التي يمكن أن تفتخر بها الحركات الإسلامية المعاصرة، فلقد ظل أغلب المشتغلين بالنقد الفلسفي والسياسي والثقافي من اليمين واليسار يتهمون هذه الحركات بالسطحية وغياب مشروع فكري عميق على مستوى الإنسان والمجتمع والدولة، وبالمقابل يبرزون الإنجازات التي حقّقتها الحداثة؛ إلى الدرجة التي أعلنوه فيها السيد المطلق للطبيعة. ولذا حاولت بناء مقاربة موضوعية بعيدة عن التشنّج والنرجسية، ومتدثرة إلى أبعد الحدود بالموضوعية، مع الالتزام بالنسق الذي يسير فيه فكر الأستاذ في حرارة الكلمة وتنوع العبارة وعمق الفكرة، مقارنا بأنساق من داخل السياق الإسلامي وخارجه، للوصول إلى نتائج واسعة وشاملة.
وقد اعتمدتُ منهجا استقرائيا من خلال تتبع مدوّنات الأستاذ ومقالاته وما جمع له وما كتب عنه مع السبر والتقسيم من جهة، وكتب منتسبي الحداثة ومفكّريها من جهة أخرى، مُدعَّما بمنهج تحليلي مقارن نظرا لطابع الموضوع السجالي والمعرفي، حيث لا ينفع التقرير والوصف بل لابد من المقارنة الشاملة.
وقد قسّمت البحث إلى مبحثين وخاتمة، وتعلق المبحث الأول بحقيقة مذهب الأنسنة، أما المبحث الثاني فتعلق بالتعريف بمذهب الأنسنة.