التدبر المنهاجي: رحلة التجديد من تفسير القرآن إلى دولة القرآن

د. سمير زردة
متخصص في الدراسات الاسلامية والفكر الاسلامي ومناهج الاصلاح
الحمد لله حق حمده، وما من نعمة إلا من عنده، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
استهلال منهجي:
الحديث عن التفسير عند الإمام، أو عن أي علم من العلوم الشرعية وغيرها، لا ينبغي أن يفصل عن الرؤية المنهاجية التي صاغها في مشروعه التجديدي مجملا في كتابه المنهاج النبوي، والتي ينطلق منها في مقاربته لجميع القضايا والإشكالات التي تناولها في باقي مكتوباته. فالمنهاج النبوي بما هو “آلة للعلم ومرشد العمل، وهو في نفس الوقت مادة العلم وبرنامج العمل”[1]، مكن الإمام من امتلاك رؤية واضحة وأدوات جديدة للتحليل أثمرت منتوجا فكريا جديدا في سائر الحقول المعرفية. وهذا ما يفسر اختلاف المفكرين والأكاديميين حول ما أنتجه الرجل من فكر، بل وجعل منه فكرا عصيا على التصنيف، لأنهم يسعون لمقاربته بأدوات التحليل التقليدية والأكاديمية، ويعمدون إلى استعارة نظارات من خارج التصور المنهاجي للنظر في القضايا التي تناولها الإمام. ولا عجب أن يحصل هذا ممن هم خارج مدرسة الإمام، إذا علمنا ظهور أفهام متفاوتة من بعض أبنائها لبعض القضايا الأساسية. وذلك راجع أساسا لتفاوتهم في فهم المشروع وامتلاك أدوات التفكير والتحليل المنهاجي.
إن عدم استيعاب مشروع الرجل في كليته وشموله، سيوقع المهتم بفكره والمشتغل عليه، في قراءات مختزلة ومجتزأة وربما تحريفية. وإذا كان لكل منظومة فكرية منهجها الخاص الذي تحلل من خلاله الواقع والتاريخ والمعارف والعلوم، فكما لا يستقيم مثلا – مع وجود فارق كبير- عند مفكر متشبع بالماركسية معالجة قضية اقتصادية ما بأدوات التحليل الرأسمالية، فإن المنهاج النبوي، حسبما اجتهد الإمام في عرضه، يقترح علينا منهجية جديدة لإعادة النظر والقراءة في واقعنا وتاريخنا وتراثنا المعرفي والعلمي والفقهي. وقد نبه الإمام القارئ لفكره، أن يصبر معه، حتى يستوعب رؤيته التجديدية التي جمعت في ثناياها منهجيته في المقاربة والاشتغال. وهي المنهجية التي صاغ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المنهاج النبوي والتي لا يمكن فصلها عنه، يقول:” فالمنهاج السلوكي جاءتنا به الرسل، والمنهجية طريقة للنظر في المنهاج. وليس بالإمكان أن نعرض المنهجية النظرية بمعزل عن المنهاج السلوكي. فستقرأ المنهاج النبوي بمنهجية نبوية، واصبر علينا إن لقيت في أول قراءتك عنَتا”[2].
هذا المنهاج – ويستعمل الإمام الكلمة بالمعنى السلوكي والمنهجي – هو الذي قارب به الإمام جميع القضايا التي خصها بالدراسة والتحليل في بعض مكتوباته مثل قضية المرأة في كتاب “تنوير المؤمنات”، وقضية الفقه والتاريخ في كتاب “نظرات في الفقه والتاريخ”، وقضية الحكم والسياسة في كتاب “العدل”، وقضية التربية والسلوك في كتاب “الإحسان”…
استئناف الاجتهاد بعد الإمام، أو فهم مشروعه المنهاجي في كليته، أو في بعض القضايا الجزئية التي تناولها، يتوقف على مدى استيعاب أدوات التفكير المنهاجي، وهي القواعد الكلية التي وضعها المنهاج أو التي جاءت مبثوثة في أمهات كتب الإمام، وإن استخلاص هذه القواعد، مهمة عظيمة تنتظر أن يشمر أبناء المدرسة على سواعد الجد للاشتغال عليها، وعرضها مدخلا رئيسا لقراءة المشروع، واستئناف الاجتهاد فيه.
هل معنى هذا أننا أما منظومة فكرية مغلقة، أو منغلقة على ذاتها، لا تقبل الانفتاح على باقي الاجتهادات والمناهج للاستفادة منها؟
القضية هنا ليست قضية انغلاق أو انفتاح الفكر المنهاجي، وحدود التقاطع والتمايز بينه وبين باقي المدارس الفكرية. القضية هنا قضية منهجية بالأساس، فالمنهاج النبوي منظومة متكاملة يستعصي فهمها وفك شفرتها بأدوات دخيلة عليه، سواء كانت هذه الأدوات من مرجعيات مغايرة، أو من داخل نفس المرجعية إذا كانت من تراث ما بعد تفرق المنهاج النبوي الكلي بين التخصصات والعلوم، أي من التراث الذي أنتج في سياق ما يسميه الإمام ب”الانكسار التاريخي”، لأن جله اتسم بالمقاربة الجزئية في تخصص ما أو قضية ما. ولا يصلح للمنهاج باعتباره اجتهادا في إعادة عرض القواعد الكلية للوحي، أن يقارب بأدوات جزئية. وهذا ما حصل للبعض حينما قارب بعض القضايا الجوهرية في المنهاج مثل قضية الصحبة – مستدعيا بعض نصوص الإمام التي تعضض فهمه الجزئي – بأدوات ما بعد الانكسار مستحضرا مقاربة السادة الصوفية للموضوع، بحيث لم يستطع أن يبذل مجهودا لفهم موضوع الصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة كما كان زمن النبوة والخلافة الراشدة وكما أعاد الإمام عرضه. وهكذا بسبب خلل في المنهج أصبحنا أمام قراءة تحريفية غير مقصودة لفكر الرجل، تهدم ما بناه وترجع بفكره لزمن ما بعد الانكسار الذي حرص الإمام على تجاوزه، مع الاستفادة من محطاته المضيئة.
حينما نصر ونلح في هذا المقدمة المنهجية على ضرورة قراءة المنهاج وقضاياه بمنهجية صاحبه وفي إطار رؤيته التجديدية، فإنما نفعل ذلك حرصا على الفهم الصحيح لمشروعه، الأمر الذي سيمكننا من استئناف الاجتهاد بصورة صحيحة من بعده في كثير من القضايا التي لازالت في حاجة لاجتهاد وهو ما سيضمن لهذا الفكر الفاعلية والحيوية.
مقدمة:
تأسيسا على ما سبق في الاستهلال المنهجي، يفترض الحديث عن تفسير القرآن عند الإمام رحمه الله أن نقاربه في إطار مشروعه التجديدي، ورؤيته المنهاجية التي أعاد من خلالها عرض الأطر الكلية المعرفية والمنهجية للوحي قرآنا وسنة في كتابه المنهاج النبوي.
قد يتساءل المطلع على اهتمام الإمام بالقرآن الكريم حفظا، وقراءة، وتدبرا، وتخلقا بأخلاقه، وحثا لأبناء مدرسته على مثل ذلك، كيف لم يكتب رجل عاش حياته في كنف القرآن الكريم تفسيرا كاملا أو جزئيا على نحو ما صنع بعض أكابر هذه الأمة؟ هل حالت انشغالاته الفكرية والجهادية دون تحقيق هذا الأمر؟ أم كانت للرجل رؤية أخرى لخدمة كتاب الله وإعادة عرض معانيه عرضا جديدا مخالفة للنمط التقليدي الذي عرفه تاريخ علم التفسير؟
العارف بهمة الرجل العالية، صاحب كتاب “المنهاج النبوي”، وكتابي “العدل” و”الإحسان” والعشرات من المؤلفات، يفهم أن المسألة ليست مسألة وقت، أو عجز، أو ترتيب أولويات، أو مانع منعه من كتابة تفسير كامل للقرآن الكريم. إنما المسألة في نظري مسألة رؤية جديدة مغايرة للنمط التقليدي في التعاطي مع الموضوع، رؤية جديدة للقرآن الكريم، منسجمة مع مشروعه المنهاجي، الهادف إلى إقامة “دولة القرآن” على أسس الشورى والعدل والإحسان، كما أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، كنموذج تاريخي شاهد “بأن القرآن قابل للتطبيق، وبأن دولة القرآن ليست مثالا حالما تمخضت عنه الفلسفة الأرضية كما تمخضت عن المذاهب الفكرية”[3].
هل نحن أمام نظرة جديدة من نظرات الإمام التجديدية لتراثنا الإسلامي وعلومه؟ نظرة لم تخصص بالتأليف كما خص علم الفقه والمقاصد والتاريخ، وباقي القضايا التي تناولها الإمام في مكتوباته، نظرا لتشعبها وخصوصيتها التي تفرض حضورها في جميع ما يكتبه ويؤصله من أفكار، كونها مرتبطة بفهم وتدبر القرآن الكريم.
ننطلق في بحثنا هذا، من هذه الفرضية التي ترجح كل المعطيات صحتها، ومنها أن الرجل معروف بفكره المنظم والجامع لأبرز القضايا التي لها ارتباط بالوحي، فكيف يعقل ألا تكون له رؤية واضحة للتعامل مع سور القرآن الكريم وآياته ؟!!. ثم إنه أشار أثناء وقوفه على سورة البلد، إلى أن التفسير بنظرته التقليدية المقتصرة على كشف المعاني الجزئية والأحكام التفصيلية لآيات القرآن الكريم، لا تفي بغرضه ولا تمكنه مما يمكنه ما أسماه ب”التدبر المنهاجي” من فهم شامل وفقه جامع، يقول: “الأحكام التفصيلية باقية على وجهها، أما الفقه الأوسع والتدبر المنهاجي فيبسط أمامنا الفهم الشمولي لأهمية التحريض الإلهي على الاقتحام، ولخطورة العقبة التي بينتها الآيات الكريمة”[4].
فما هي إذا مضامين ومعالم “التدبر المنهاجي”؟ وماهي العلاقة التي تربط هذه الرؤية بالتصور المنهاجي عموما؟ ما موقعها من المشروع التغييري للإمام؟ هل هي تدبرات معزولة أم خادمة لفكر الإمام وأهدافه؟ ما خصائص “التدبر المنهاجي” التي تجعل منه رؤية متميزة في خدمة كتاب الله؟
هذه الأسئلة وغيرها، مما سنحاول الإجابة عنه في هذه الورقة بإذن الله، وذلك من خلال عرض ما وصلت إليه أيدينا من نصوص الإمام في هذا الباب. نتدرج في عرضها من المستوى النظري، إلى المستوى التطبيقي، في ثلاث محاور رئيسية: الأول: في بيان ماهية “التدبر المنهاجي” وفلسفته، والثاني: في بيان سمات وخصائص “التدبر المنهاجي”، والثالث: إجراء دراسة تطبيقية على نموذج من تدبرات الإمام المنهاجية.
أولا: التدبر المنهاجي رؤية تجديدية للمساهمة في بناء دولة القرآن
لا تنفصل رؤية الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله للقرآن الكريم، عن مشروعه التجديدي الذي اجتهد من خلاله في عرض المنهاج النبوي، باعتباره المنظار الذي ينظر به للقرآن الكريم يقول:”رويدك أخي فإننا لن نأتيك من عندنا بشيء ما خلا المنظار الذي به تعود إلى قراءة قرآن ربك”[5].
وجريا على عادته في التأصيل لنظراته المنهاجية – ومنها نظرته للقرآن الكريم – يأخذك الإمام في رحلة ماتعة، وبلغة فصيحة رشيقة، إلى مرحلة النبوة والخلافة الراشدة باعتبارهما الشاهد التاريخي الذي نقيس عليه ونستقي منه. ف”الذي ينفرد به الإسلام هو الشهادة التاريخية، المتمثلة في السيرة النبوية وفي الخلافة الرشيدة، ثم بعدُ في ومضات تاريخية هنا وهناك، بأن القرآن قابل للتطبيق، وبأن دولة القرآن ليست مثالا حالما تمخضت عنه الفلسفة الأرضية كما تمخضت عن المذاهب الفكرية”[6]. يعود بنا إلى ذلك النموذج الخالد، ليكشف لنا عن حقيقة العلاقة التي كانت تربط رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة بالقرآن، لما وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها بأنه “كان خلقه القرآن”[7]. ويكشف عن المنهاج الذي بيًّن وبلًّغ وربى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل الفريد الذي كان يتلقى تعاليم القرآن الكريم بنية التنفيذ. فأثمر دولة القرآن التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحافظ عليها الخلفاء الراشدون من بعده، من خلال السير على منهاجه. عن ذلكم السر يحدثنا الإمام بقوله: “فحين كان القرآن دستور قيادة رباها القرآن، وكان به لا بغيره الفرقان، وكان هو على غيره البرهان، وكان طابع الجماعة الإيمان والإحسان، نشأت دولة القرآن امتدادا بين الأرض والسماء، تشد وحدتَه وتصونه أن يزيغ عن العروةُ الوثقى.”[8] كيف تحول القرآن في حياة هؤلاء إلى فرقان وبرهان وإحسان حتى أثمر ذلك الثمر اليانع؟ ينبهنا سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى واحد من أسرار هذا التحول والارتباط بالقرآن الكريم، إنه بذرة الإيمان التي زرعها المصحوب الأعظم صلى الله عليه وسلم في قلوب صحابته الكرام، وتنزلت عليها أنوار القرآن فزادتهم إيمانا. قال: “أوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان فأنتم تنثرونه نثر الدقل“[9]. إيتاء وإيتاء، سماع وسماع، إيتاء وسماع الصحابة وما أثمر من تعلق وتعظيم، وإيتاء وسماع من جاء بعدهم، وما أثمره من تحول القرآن إلى بضاعة تنثر كما ينثر رديء الثمر. ف”العقل الفطري الذي تفتح فسمع بسماع القلب، وآمن بإيمانه، يَسْبِقُ إليه تعظيم المتكلم بالقرآن، وتصديق المبلغ للقرآن، فيهتدي. أما الذي استعرض صفحات المصحف، أو سمع سماع المتكئ، أو «قرأ» قراءة الفيلسوف المؤرخ، فالقرآن عنده بضاعة كسائر البضائع الكلامية. يستهين به كما عبر الصحابي الجليل”[10].
كيف تحول التعظيم إلى استهانة، والتعلق إلى هجران؟ ينقلنا الإمام في جولة سريعة إلى مرحلة ما بعد “الانكسار التاريخي” (أو الفتنة الكبرى) مرحلة الصراع بين السلطان والقرآن، وانتصار السيف، وتفرق منهاج النبوة الكلي إلى مناهج جزئية خاصة بكل علم من العلوم الإسلامية، فغابت الشورى وغاب العدل واختفى الإحسان، فتسللت العجمة إلى القلوب قبل الألسنة، واستعصى على عموم المسلمين التعامل مع كتاب الله. فظهرت جهود علمائنا في علم التفسير، وما أنتجوه من تفاسير ظنا منهم أن أزمة المسلمين في علاقتهم بالقرآن الكريم مرتبطة بالفهم فقط. وظهرت في الأمة طوائف ممن ينتسبون للعلم، استعجم عليهم كلام الله، فادعوا أن السلامة في توقير القرآن، “هَمٌّ مُقعِد مقيم أن يكون أتى على بعض المنتسبين للعلم حين من الدهر زعموا فيه أن السلامة في الدين لا سبيل إليها إلا بتوقير القرآن توقير هجران. قالوا، وبئس ما يجري التقليد على الألسنة: «القرآن صوابه خطأ، وخطأه كفر». استعجم عليهم كلام الله تبارك اسمه لما انطمست القلوب وغشى العقول ما غشاها. في كلمتهم ما يشبه اليأس، أو ما هو اليأس بعينه، من أن يفهموا عن الله أمرا أو نهيا. فبتقديرهم يكون ما يفهمونه من القرآن مباشرة خطأ ولو كان ذلك الفهم صوابا في واقع الأمر، مادام فهمهم لم يكن تقليدا لعمدة حجة يقلدونه في دينهم”.[11] تدحرجت الأزمة وتفاقمت لتصل إلى زمن الناس هذا، فظهرت مواقف – مناقضة تماما لمواقف أولئك المبالغين في الحذر- من بعض المستخفين بكلام الله الذين يؤولونه وفق أهوائهم، ويجردونه من قدسيته، “نرى اليوم موقفا معاكسا لذلك الموقف السادر في جهله وتجاهله، ألا وهو جرأة كل ناعق على كتاب الله يؤوله بالهوى، ويتناوله بالمنهاجيات المادية والجدلية والإحصائية والبنيوية، في استهتار واستخفاف. إن كان عند غلاة الصنف الأول هجران للقرآن منشؤه فرط الحذر من الوقوع في الخطأ تعظيما لكلام الله جلت عظمته، فعند زنادقة العصرانية يتم تجريد النص القرآني من قدسيته ليصنفوه مع النصوص التاريخية، يحتل بينها مكانته على سلم التطور الإيديولوجي في الفكر العربي”[12].
بين هؤلاء وأولئك ضاع هدي القرآن، وأظلمت الطريق أمام المسلمين، فتاهوا بين دروب المذاهب والفرق، بحثا عن النجاة في غير حبل الله المتين، العروة الوثقى. فلما أعياهم البحث، ولوا وجوههم قبل المشرق والمغرب عالة على المدارس الفكرية والإيديولوجيات والفلسفات يتسولون طوق نجاة. فما ازدادوا إلا تيها وضلالا، حتى وصلنا للحال الذي لا يخفى اليوم على أحد.
كيف السبيل إلى الخروج من حالة التيه، ومن هذه الفتنة المظلمة؟ “كيف نعود ونتخذ القرآن إماما؟ وكيف نجتمع عليه علما وعملا؟ وكيف “ننظم” به ما بيننا؟ هذه هي الأسئلة الجوهرية.”[13]. نعم، هذه هي الأسئلة الجوهرية التي تحتاج منا اليوم إلى إجابات واضحة لا تحتمل التأويل. هل إضافة تفسير جديد بالنمط التقليدي المعهود في تاريخ علم التفسير، يكشف معاني القرآن الكريم وأحكامه، كاف ليحل مشاكل المسلمين، ويخرجهم من التيه إلى الهداية؟ بل هل تطبيق أحكام القرآن على هذا الواقع – وحال الأمة على ما نرى – هو الحل للخروج من المأزق؟ يجيب الإمام عن هذه الأسئلة، ويحدد المدخل لتجاوز هذا الواقع المفتون، واستشراف الوعد الإلهي على لسان نبيه، الخلافة الثانية. يقول: “فكذلك الخلافة الثانية لن تتحقق بمجرد أن الناس فهموا الأحكام القرآنية وكتبوها وتحالفوا على تطبيقها. نجاحهم في تجديد الخلافة لا يتوقف على ذكائهم وإن كان الذكاء من أهم الفضائل، ولا على ضبطهم التنظيمي وإن كان التنظيم قوة واجبة، ولا على أجهزة تُحادي ما كان في دولة الخلافة الأولى وتحاكيها. إنما ينجحون بمقدار ما معهم من خُلُق القرآن وفرقانه وبرهانه وإحسانه”[14]. كيف يصبح القرآن في حياتنا اليوم هو الفرقان والبرهان والإحسان؟
لابد من إعادة اكتشاف المنهاج النبوي الذي ربى الإيمان والإحسان في القلوب، وبين معاني القرآن حتى صار هو البرهان والفرقان. المنهاج الذي ربطت عودة الخلافة الثانية بوجوده في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في موطئه، قال صلى الله عليه وسلم: “…ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة. ثم سكت.”[15]. لابد من إعادة عرض المنهاج كمدخل للتعامل مع القرآن ورسم الطريق الواضح الذي نسلكه لخدمة القرآن، فالمنهاج النبوي في حقيقته ليس إلا الفهم والتطبيق العملي لمعاني القرآن الذي صاحبه التوفيق والعصمة في حق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، “وما من معنى قرآني إلا وهو شعبة من شعب الإيمان”[16]. وقد جمع صلى الله عليه وسلم هذه المعاني في بضع وسبعين شعبة، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الإيمان بضع وسبعون شعبة -عند البخاري بضع وستون- (زاد مسلم): أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.”[17] وبقي التوفيق الإلهي يصحب عباده المؤمنين الساعين إلى تجديد دينه والسير على منهاج نبيه بشروطه. وهو الأمر الذي تنبه له الإمام في بداية مشواره الجهادي التغييري “ها نحن أولاء نبدأ بحول الله وقوته لا بحولنا بحثا عن حركية المنهاج النبوي للخروج من الفتنة.”[18] إعادة عرض المنهاج النبوي من خلال جمع شعب الإيمان، وترتيبها وتصنيفها مهد الطريق للإمام ومكنه من امتلاك منظار واضح للنظر في بعض القضايا الإشكالية، ومنها قضية التعامل مع القرآن الكريم في زمننا هذا.
اختار الإمام التعاطي مع القرآن الكريم من نافذة “التدبر المنهاجي” بما يخدم كلياته الثابتة التي لم يطرأ عليها تغيير – إلا من جهة تحولها لمطالب ينبغي السعي لتحقيقها – كالشورى والعدل والإحسان دون الدخول في التفاصيل المختلف حولها. جعل ذلك منهاجه ومنهاج جند الله القائمين معه للتغيير في مرحلة الدعوة يقول: “والأوْلى بجند الله أن يلتصقوا بالكلمة القرآنية ويحملوا على عاتقهم شرف الشعار القرآني في كليات الشريعة وهي لم يطرأ عليها نسخ، ولا حدث تغيير لمراد الله من آياته فيها، ولنترك لأهل الاختصاص والاجتهاد النظر فيما اختلف فيه، ريثما يأذن الله عز وجل بنصب الحاكم على منهاج النبوة ليجتمع تحت إشارته الاجتهاد… المنهاج والاجتهاد والحكم بما أنزل الله من شورى وعدل وإحسان هذه مطالب قرآنية لا نحتاج لإثباتها وإيجابها على أنفسنا بما أوجبها الله لسلوك طرائق المتقدمين في الاستدلال، ولن يثنينا عنها إن شاء الله التواء من يحاول أن يستر الشمس بكفه”[19].
فتدبر الإمام لآيات القرآن وسوره، لا يخرج عن هذه المقاصد الكلية للدين؛ الشورى والعدل والإحسان، باعتبارها أسسا لبناء دولة القرآن، ينبغي العمل على إيجادها لأنها مفقودة في واقع الأمة اليوم. و”التدبر المنهاجي” نافذة الإمام على القرآن، به يستكشف معانيه وأسراره الخفية الخادمة لمقاصد الدين الكلية، به يؤصل لمنهاجه في التربية والجهاد. ومعه لا يضير أن يستفيد من علوم أئمتنا وعلى رأسها علم التفسير، ف “ما من علم تناولوه إلا وهو في خدمة القرآن، مستنبط من القرآن، راجع إلى القرآن، صادر عن القرآن، والسنة مبينة منيرة”[20].
“التدبر المنهاجي” عند الإمام إذا يمثل “رؤية تجديدية للنظر في آيات القرآن الكريم وسوره بمنظار المنهاج النبوي، غايته فهم وخدمة المقاصد الكلية للقرآن الكريم من شورى وعدل وإحسان، والعمل على تمثلها وتحقيقها في حياة الفرد والجماعة.” ولفهم هذه الرؤية، سنحاول الوقوف في المحور الثاني على بعض خصائصها.
ثانيا: خصائص التدبر المنهاجي عند الإمام
انطلاقا من التعريف السابق ل”التدبر المنهاجي” يمكن أن نتحدث عن مجموعة من الخصائص التي يتصف بها. ويمكن إجمالها في:
أولا: التجديدية
بما أن “التدبر المنهاجي” يستمد رؤيته من مشروع تجديدي شامل – شأنه في ذلك شأن باقي العلوم والقضايا الإسلامية والإنسانية التي خصها الإمام بنظراته المنهاجية – فطبيعي أن يتصف بجميع خصائصه أو ببعضها، ومنها التجديد، باعتباره جزءا من كل. ف”التدبر المنهاجي” يتجاوز النظرة التقليدية، لأن “منظار التقليد يفرض على الذهنية الكليلة، ذهنية منشطرة منكدرة، صورا من الماضي الغابر ووقائعه وأحداثه يسقطه على واقع العصر ليصف لحاضر المسلمين علاجات هي الهوس بعينه، وليصدر فتاوي هي الفتنة بعينها، وهي التناقض والفهاهة”[21]. ليس معنى هذا أنه يرفض التعامل بشكل قاطع مع تراث سلفنا الصالح، كلا لكنه يشترط في ذلك عرضه على القرآن والمنهاج، يقول: “لا ألتفت عن القرآن إن أنا استفتيت سنة ثابتة أو سألت عن فهم من سبقني بأثارة من علم، شريطة أن لا يشغلني المفسر عن التفسير، ولا رأي المفتي عن الحكم ولا الحكم عن الحاكم جلّ وعلا. في تجارب سلفنا الصالح من العلماء وفي محاولاتهم واجتهاداتهم ما هو حريّ بإثراء تجربتنا، وتقويم محاولاتنا، وتوجيه اجتهادنا إن نحن وضعناها جميعا أمام القرآن والقرآن يحكم، نفحصها على ضوئه، في نشوئها وتسلسلها، وتعاقب أشكالها ومناهجها، وتأثرها بحركة الحياة العامة وتأثيرها فيها، وإقدامها وإحجامها، ونتائج صوابها وخطئها. أمام القرآن وهو يحكم نسائل تلك التجارب وذلك الاجتهاد عما فعل العدل الذي أمر الله عز وجل به في القرآن؟ وأنى سارت الشورى وصارت؟ وأيّةً سلك الإحسان؟ ماذا فعل كل أولئك في فقه هذا المذهب وسلوك تلك الطائفة واستبداد ذلك السلطان؟”[22].
بمثل هذه النظرة التجديدية لقضية التفسير، يمكننا أن نتخلص من تلك النظرة التجزيئية والجامدة التي قاربت القرآن الكريم طيلة قرون من الزمن، وهذا يحيلنا إلى الحديث عن الخاصية الثانية، وهي الشمولية.
ثانيا: الشمولية
يهدف التدبر المنهاجي إلى إعادة علاقتنا بالقرآن الكريم كما كانت زمن النبوة، ويتجاوز النظرة التجزيئية التي نشأت ما بعد الخلافة الراشدة الأولى، حيث “كان الاعتصام بالقرآن والسنة طيلة هذه القرون بعد الخلافة الراشدة المهدية الأولى اعتصام قُربة فردية، نرجو من فضل مَن له الفضل سبحانه أن تجمع هذه الأجيال بين يدي الساعة إلى قربات القرآن الثوابية الارتقائية قربة الجهاد في طريقنا إلى الخلافة الثانية المشهودة الموعودة. بذلك نكون حقا من أهل الله وخاصته كما كان من أُنزل القرآن بين ظهرانيهم. والقرآن كتاب جهاد أولا وأخيرا، ما أصبح تميمة للتبرك، ووثيقة مهجورة، ونصا معروضا معزولا إلا بِبِلَى الإيمان وعموم الفتنة، أخرجنا الله من عهودها بمنه”.[23] تدرجت علاقتنا بالقرآن الكريم من كتاب هداية وجهاد وعمران إلى كتاب تبرك وتحصين ورُقية، وفي أحسن الأحوال مصدر لتحصيل الأجر والثواب فقط. هذه المقاربة التي نقلت الاعتصام بالقرآن الكريم من الجماعة إلى الأفراد، هي ما يسعى التدبر المنهاجي إلى تجاوزه بمقاربة شاملة تخدم مفهوم الجماعة الذي عمل الإمام على تجديده، وتجمع القربة الفردية بالقربة الجماعية، والعلم بالعمل، والتربية بالجهاد، كما كان زمن الصحابة رضوان الله عليهم. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل.”[24]
ثالثا: الواقعية والإجرائية
سعى الإمام إلى ترجمة مشروعه التغيري إلى واقع برؤية إجرائية وعملية مفادها: “المنهاج النبوي أجملناه في هذه العبارة «اقتحام العقبة إلى اللّه عز وجل»، فأول ما نفهمه من العبارة تحرك سالك إلى مسلوك إليه، صعدا وارتقاء. تقرب العبد إلى ربه. فكل ما يصرف العبد عن هذه الوجهة، أو يعرقل هذه الحركة، أو ينسيها أثناء السير، أو يذيبها في الانتشار الفكري والشغل الجماعي، خطر يهدد عملنا بالسطحية، ثم بالغفلة، ثم بالانحراف.”[25]؛ حيث اعتبر المنهاج النبوي وسيلة اقتحام كلية. والمنهاج النبوي خصال عشر: “ليست إلا المضمون القرآني النبوي لمنهاج اقتحام العقبة.”[26] بهذا النًّفَس الإجرائي والواقعي يقارب الإمام آيات القرآن الكريم وسوره في تدبراته المنهاجية ضمن رؤية تغييرية شاملة، بعيدا عن النظرة الجامدة التي تمت بها مقاربة نصوص الوحي عموما ونصوص القرآن الكريم في علم التفسير على وجه الخصوص؛ حيث اقتصرت على كشف بعض المعاني سواء كان بمنهج مدرسة الأثر، أو بمنهج مدرسة الرأي، في معزل عن الواقع وبعيدا عن أي رؤية واضحة تستجيب لهموم وحاجات الناس في كل عصر. هذا الأمر أفقد القرآن الكريم فاعليته ونزع من معانيه الحياة التي لا تكون إلا بتنزيل هذه الروح في واقع الناس أفرادا وجماعة، كما كان عليه الحال زمن النبوة والخلافة الراشدة.
إن هذه الرؤية الإجرائية لتدبرات الإمام المنهاجية، تسعى مع باقي الخصائص وفي إطار رؤيته التغييرية الشاملة، إلى إعادة تشكيل تمثلات صحيحة عن طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تربط المسلم بكتاب الله، بعيدا عن التمثلات الجزئية التي سادت في زمن ما بعد الخلافة الراشدة الأولى. وسيكون لنا في نهاية هذه الورقة وقفة مع سورة البلد كنموذج لتدبرات الإمام المنهاجية، ومن خلالها جسد هذه الخصائص والرؤية التي تؤطرها.
ثالثا: دراسة تطبيقية لتدبرات الإمام المنهاجية، سورة البلد أنموذجا
ينبه الإمام أثناء مدارسته لسورة البلد، لأمر غاية في الأهمية، وهو أن التدبر المنهاجي أو ما يسميه بالفقه الجامع، يتيح له من الفهم الشامل والمتجدد الذي يراعي حاجة الأمة اليوم للتحرر، والنهوض لاقتحام العقبات النفسية والواقعية، ما لا يتاح للفقيه أو المفسر الباحث عن الأحكام الجزئية من السورة. يقول:” الأحكام التفصيلية باقية على وجهها، أما الفقه الأوسع والتدبر المنهاجي فيبسط أمامنا الفهم الشمولي لأهمية التحريض الإلهي على الاقتحام، ولخطورة العقبة التي بينتها الآيات الكريمات. تحريض ملح وخطورة بالغة بالنسبة للإنسان ومصيره لا يتناسبان مع مجرد تحرير رقبة وإطعام جائع وانضمام مؤمن، ولا ينتهيان فيها، ولا يتحقق الاقتحام بها مادامت أفعالا فردية متناثرة، مادامت لم تدخل في نظام محكم يتحرر فيه الإنسان وتتحرر فيه الأمة من كل عبودية لغير اللّه، من العبودية للناس، ومن العجز أمام الطبيعة، ومن الانفراد وغياب الجماعة. وما هو إلا نظام الإسلام.”[27]
هذا المعنى يؤكد ما عرضناه في هذه الورقة، بأن الأمر يتعلق برؤية واضحة يصدر عنها الإمام رحمه الله في مقاربته لسور وآيات القرآن الكريم، مقاربة تندرج في إطار مشروع تجديدي شامل. اخترنا سورة البلد لأنها مثال واضح للتعبير عن تلك الرؤية والخصائص التي وقفنا على بعضها، وسنحاول ترتيب تلك التدبرات بحسب الخصائص التي رأينا في المحور السابق:
– البعد التجديدي الشمولي في التدبر المنهاجي للسورة:
يخبر الإمام في بداية تدبره لسورة البلد عن إمكانات الوعي والمعرفة التي تتيحها الآيات يقول: “نأخذ من الآيات الكريمات الصيغة الواحدة المركزة للمنهاج النبوي، هذه الصيغة هي: اقتحام العقبة، لنرجع بعد نفحصها ونتبين ما تعطيه من معرفة ومن إمكانيات وعي للوجود والعمل الإنساني”[28]. تحصيل هذه الغايات لا يتيحه الرجوع إلى السورة برؤية تقليدية تبحث عن الأحكام الجزئية التي يعطيها ظاهر اللفظ، بل يتيحه الرجوع إلى النص برؤية تجديدية تفهم عن الله ما وراء الأحكام التفصيلية، وما تعطيه من معاني الاقتحام ومعاني العقبة الموجود في سياق الآيات، وما يجمعها ويكوِّن منها معرفة شمولية للإنسان وسلوكه عبر العقبات التي تعترضه يقول: “للفقيه الذي يبحث عن الأحكام العينية الجزئية أن يفسر فك الرقبة وإطعام المسكين واليتيم والكينونة مع الذين آمنوا في سياق تفصيل الأحكام الفقهية. لكن أي شيء يمنعنا أن نفهم عن اللّه عز وجل ما وراء الأحكام التفصيلية، ما يجمع تلك الأحكام وما يربطها وما يكون منها معرفة شمولية للإنسان وسلوكه عبر العوائق والحواجز التي تعـــترض صعوده في معارج الإيمان؟”
ثم يبدأ بعد ذلك في عرض تأملاته ابتداء من قوله تعالى: “﴿لقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾[29].
“نجد أن النجدين اللذين هدى اللّه تعالى إليهما الإنسان عقبتان: إحداهما تؤدي به بعد الكدح والكبد والتعب في دنياه إلى الشقاء الأبدي في الدار الآخرة. والأخرى، وهي التي عظم اللّه شأنها وشوق إلى معرفتها في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة﴾ هي التي يقتحمها المؤمن اقتحاما، فينال بعمله الصالح ذاك سعادة الدارين. نداء خالد من اللّه عز وجل للإنسان، والإنسان مخير ذو إرادة. حر في أن يسارع لرضى ربه ويتجشم في سبيله المشاق أو يختار النجد الآخر. فأية حرية تفتح له الطريق؟ وأي رق يعوقه عن الاقتحام؟ ما هي العقبة؟ وما قوائمها؟ أخبرنا اللّه العليم الحكيم بثلاثة أبعاد هي مجاري العقبة وآفاتها:
-1 الرق الذي يستعبد الإنسان فإذا هو رهين بإرادة غير إرادته.
-2 العوز الذي يقعد بالمسكين واليتيم، تمنعهما المسغبة والاهتمام بالقوت عن كل خير.
-3 الانفراد عن جماعة المؤمنين الذين يتأتى السفر والاقتحام في كنفهم”.[30]
بعد أن أورد أقوال المفسرين السابقين في هذه السورة، واعتراضاته على فهم بعضهم لها[31]. انتهى الإمام في تأملاته إلى هذه المعاني الجامعة: تخيير الإنسان بين نجدين؛ نجد الشقاء ونجد السعادة الذي حثنا الله على اقتحام عقباته في أبعادها الثلاث، “فك الرقبة تحرير الإنسان من العبودية لغير اللّه عز وجل، إطعام اليتيم والمسكين، تحرير لطاقاته لينتج ما به يستطيع أن يطعم المعوزين ابتداء من إطعام نفسه، الكينونة مع الذين آمنوا تحرير للإنسان المؤمن الفرد من العزلة والخمول والانفراد، وإدماج له في الجماعة ليتحزب لله عز وجل. ثلاث مجالات: المجال النفسي، والمجال الاقتصادي، والمجال السياسي.”[32]
– البعد الواقعي والإجرائي في التدبر المنهاجي للسورة:
شكلت عبارة “اقتحام العقبة” مفهوما محوريا في مشروع الإمام “رأس هذه المفاهيم العبارة المقتبسة من سورة البلد: “اقتحام العقبة” إلى الله عز وجل. هذه العبارة لم آخذها صدفة، إنما توفيق الله عز وجل سبق، فإذا بالعبارة حبلى بكثير من العلم”[33]. وما ذلك إلا لاعتبار “اقتحام العقبة” نداء من الله للإنسان يستنهضه ويهيب به أن يتحرك بإرادته ويغلب العوارض فردا وجماعة وأمة، ف” اقتحام العقبة إذن تحرك إرادي تتعرض له العقبة فتمانعه ويغالبها حتى يتم الاقتحام. حركة الفرد المؤمن في سلوكه إلى الله عز وجل، وحركة الجماعة المجاهدة في حركتها التغييرية، وحركة الأمة في مسيرتها التاريخية”[34].
فمفهوم “اقتحام العقبة” يمثل عنصر الحركة والمغالبة في المشروع الذي يسعى من خلاله إلى تغيير الواقع، ويتفاعل من خلاله مع الأفكار السائدة وينقضها، ينقض التفكير الجدلي والوجودي، وصراع الطبقات الاجتماعية. فالمفهوم فتح للإمام أفقا جديدا للتغيير مغايرا تماما للأنماط السائدة، ينقلنا من موقع الصراع الأفقي بين متناقضات الطبيعة بعضها ببعض، إلى موقع الأخوة الإنسانية، حيث الطبيعة الكونية والطبيعة الإنسانية عقبة يجب على الإنسان اقتحامها ليعرف خالقه. يقول: “… لكن جاء التأمل الثاني فإذا بالعبارة ترفع تلك الحركة الجدلية التافهة من حيث كانت متناقضات الطبيعة يحتك بعضها ببعض، ويصطدم بعضها ببعض، ويسابق بعضها بعضا، إلى حيث تكون الطبيعة، الطبيعة الكونية والطبيعة الإنسانية، عقبة يجب على الإنسان أن يقتحمها ليعرف مولاه وخالقه، وليرضى عنه، وليسعده السعادة الأبدية.
جدلية الطبقات الاجتماعية هل يمكن الروغان عنها؟ اقتحام العقبة إلى الله عز وجل ينقلنا من آفاق الثورة الطبقية والاستبداد الطبقي إلى إمكانية الأخوة الإنسانية”.[35]
يبدأ الإنسان سيره وسلوكه باقتحام عقبة نفسه أولا، وبعالم الفتنة ثانيا، “فموضوع المؤمن الحر العامل المقتحم للعقبة هو نفسه، أولا يحملها على الاعتراف بخالقه، وعلى السير في الاتجاه الذي رسمه الشرع الإلهي، ثم عالم الفتنة القائم المشترك بينه وبين الجاهلي الكافر. كلاهما ولد في بيئة طبيعية واجتماعية، وكلاهما بحاجة لأكل وأمن، كلاهما مزود بعقل وحس، وكلاهما ورث تطورا ماديا شكل ما بين يديه من أدوات ثقافية وتكنلوجية، أحدهما ذاب في الفتنة والثاني اقتحم الفتنة، أحدهما من أصحاب المشأمة والكبد والشقاء الأبدي، والآخر من أصحاب الميمنة من أهل السعادة الأبدية”.[36]
بهذه التأملات المنهاجية التي أماطت اللثام عن بعض معاني القرآن الكريم التي لا تنفد، تفاعل الإمام مع واقعه وعصره وما يروج فيه من أفكار، وأعطى لمشروعه نفسا عمليا إجرائيا، مكنه من احتلال مواقع مشرفة في أرض الواقع، سعيا نحو هدفه المنشود: إقامة دولة القرآن.
خاتمة:
الباحث عن تفسير القرآن الكريم عند الإمام بالتمثلات التقليدية لعلم التفسير بجميع اتجاهاته، والمقتصرة على كشف معاني القرآن سواء بمنهج مدرسة المأثور أو بمنهج مدرسة الرأي، لن يجد بغيته وضالته. بل سيكون مخالفا لمبتغى الرجل من القرآن، إن قارب موضوع التفسير عنده بأدوات ومناهج السابقين رحمهم الله ورضي عنهم بما قدموه من خدمة لكتاب الله. ليس معنى هذا أن الرجل لم يستفد من جهود السابقين، لكنه لم يقف على ذلك التراث الثمين جامدا ليستنسخ مثل صنيعهم في الموضوع. بل استفاد منه، وبنى إلى جانبه صرحا جديدا، بمنهاج جديد، ورؤية جديدة، للتدبر في آيات القرآن الكريم وسوره.
إنه “التدبر المنهاجي” كما اصطلح على ذلك الإمام – التدبر تمييزا له عن التفسير كعلم، والمنهاجي نسبة للمنهاج النبوي الذي يمثل ثمرة اجتهاد الإمام – عبارة عن تأملات مؤطًّرة برؤية منهاجية مستقاة من مشروعه التغيري، وخادمة لأهدافه ومقاصده الكلية، ممثلة في: الشورى والعدل والإحسان، وهي نفس المقاصد التي جاء بها الوحي، وترجمتها السيرة النبوية إلى واقع اقتفى أثره وسار على منهاجه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا على أساسها دولة القرآن. فالتدبر المنهاجي إذا نافذة الإمام لتلقي أنوار القرآن الكريم وسبر أغواره ومعانيه والسير بها سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهاجه – كما سار على ذلك صحابته الكرام – نحو الهدف المنشود؛ إقامة دولة القرآن في أنفسنا وواقعنا.
إن التدبر المنهاجي ليس تأملات حالمة أو إشارات عابرة لترقيق القلوب لا تخضع لضوابط، إنما هو رؤية واضحة تؤطرها خصائص محددة – وقفنا على بعضها بما يسمح الوقت والمجال في هذه الورقة – خدمة لمشروع واضح، غايته تغيير الواقع بتغيير الإنسان. وقد مثلنا لهذه الرؤية بنموذج تطبيقي من سورة البلد، في أفق ييسر اللهٌ فيه جمع تدبرات الإمام المنهاجية لسور وآيات القرآن الكريم المبثوثة في كتبه، وهي كثيرة تحتاج إلى جهد كبير لا يقوى على القيام به فرد واحد. وإنما ينهض بهذه المهمة العظيمة، فريق من الباحثين لهم إلمام بمشروع الرجل، يمكنهم من الدخول في هذا العمل برؤية ومنهج موحد. خطوة مثل هذه لا تقبل التأجيل لما قد تفوته من فوائد ومنافع تزيد من استيعاب مشروع الرجل في كلياته وتفاصيله، كما ستزيد من ربط المشروع بالقرآن الكريم، مما قد يفتح عليه منافذ جديدة للتعريف به والتواصل مع فئات جديدة من العاملين في الدعوة. نسأل الله علي القدير أن ييسر ذلك في أقرب الآجال، إنه سميع مجيب.
وختام القول كما بدأ، ثناء وشكر لله على مننه وفضائله التي لا تعد ولا تحصى، فلك الحمد ربي على ما أكرمت وتفضلت. والصلاة والسلام على حبيب الحق وخير الخلق، سيدنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
[1] مقدمات في المنهاج، عبد السلام ياسين، ص، 36.
[2] الإسلام غدا، عبد السلام ياسين، ص، 17
[3] القرآن والنبوة، عبد السلام ياسين، ص، 27
[4] مقدمات في المنهاج، عبد السلام ياسين، ص، 57.
[5] الإسلام غدا، ص، 17.
[6] القرآن والنبوة، ص/26-27.
[7] أخرجه البخاري في “الأدب المفرد”، والنسائي في “الكبرى”، وأحمد في “المسند”.
[8] نفسه، ص/28.
[9] رواه الحاكم وصححه.
[10] القرآن والنبوة، ص/ 24.
[11] نظرات في الفقه والتاريخ، ص، 21
[12] نفسه، ص/21.
[13] القرآن والنبوة، عبد السلام ياسين، ص، 16.
[14] نفسه، ص، 28.
[15] رواه الإمام أحمد.
[16] القرآن والنبوة، ص/32.
[17] رواه الشيخان.
[18] الإسلام غدا، ص، 10
[19] نظرات في الفقه والتاريخ، عبد السلام ياسين، ص، 22-23.
[20] نفسه، ص/24.
[21] نظرات في الفقه والتاريخ، ص، 25.
[22] نفسه، ص/25-26.
[23] الإحسان، عبد السلام ياسين، ج1/334.
[24] رواه ابن جرير الطبري في تفسيره.
[25] مقدمات في المنهاج، عبد السلام ياسين، ص، 50.
[26] الإسلام غدا، عبد السلام ياسين، ص، 45.
[27] مقدمات في المنهاج، ص، 57.
[28] الإسلام غدا، ص، 27.
[29] سورة البلد من الآية: 04-20
[30] مقدمات ي المنهاج، ص، 55-56
[31] انظر مجالس المنهاج النبوي بعد تفريغها، المجلس الرابع على وجه الخصوص.
[32] مقدمات في المنهاج، ص، 57.
[33] نفسه، ص، 15.
[34] نفسه، ص، 16
[35] مقدمات في المنهاج، ص، 16.
[36] الإسلام غدا، ص، 29.